سورة الحجرات - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجرات)


        


هذه السورة مدنية. ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة، لأنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم قال: {وعد الله الذين آمنوا وعلموا الصالحات} فربما صدر من المؤمن عامل الصالحات بعض شيء مما ينبغي أن ينهى عنه، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله}.
وكانت عادة العرب، وهي إلى الآن الاشتراك في الآراء، وأن يتكلم كل بما شاء ويفعل ما أحب، فجرى من بعض من لم يتمرن على آداب الشريعة بعض ذلك. قال قتادة: فربما قال قوم: ينبغي أن يكون كذا لو أنزل في كذا. وقال الحسن: ذبح قوم ضحايا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل قوم في بعض غزواته شيئاً بآرائهم، فنزلت هذه الآية ناهية عن جميع ذلك. فقال ابن عباس: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه. وتقول العرب: تقدمت في كذا وكذا، وقدمت فيه إذ قلت فيه.
وقرأ الجمهور: لا تقدموا، فاحتمل أن يكون متعدياً، وحذف مفعوله ليتناول كل ما يقع في النفس مما تقدم، فلم يقصد لشيء معين، بل النهي متعلق بنفس الفعل دون تعرض لمفعول معين، كقولهم: فلان يعطي ويمنع. واحتمل أن يكون لازماً بمعنى تقدم، كما تقول: وجه بمعنى توجه، ويكون المحذوف مما يوصل إليه بحرف، أي لا تتقدّموا في شيء مّا من الأشياء، أو بما يحبون. ويعضد هذا الوجه قراءة ابن عباس وأبي حيوة والضحاك ويعقوب وابن مقسم. لا تقدموا، بفتح التاء والقاف والدال على اللزوم، وحذفت التاء تخفيفاً، إذ أصله لا تتقدموا. وقرأ بعض المكيين: تقدموا بشد التاء، أدغم تاء المضارعة في التاء بعدها، كقراءة البزي. وقرئ: لا تقدموا، مضارع قدم، بكسر الدال، من القدوم، أي لا تقدموا إلى أمر من أمور الدين قبل قدومها، ولا تعجلوا عليها، والمكان المسامت وجه الرجل قريباً منه. قيل: فيه بين يدي المجلوس إليه توسعاً، لما جاور الجهتين من اليمين واليسار، وهي في قوله: {بين يدي الله}، مجاز من مجاز التمثيل. وفائدة تصوير الهجنة والشناعة فيها؛ نهوا عنه من الإقدام على أمر دون الاهتداء على أمثلة الكتاب والسنة؛ والمعنى: لا تقطعوا أمراً إلا بعدما يحكمان به ويأذنان فيه، فتكونوا عاملين بالوحي المنزل، أو مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا، وعلى هذا مدار تفسير ابن عباس. وقال مجاهد: لا تفتاتوا على الله شيئاً حتى يقصه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا النهي توطئة لما يأتي بعد من نهيهم عن رفع أصواتهم. ولما نهى أمر بالتقوى، لأن من التقوى اجتناب المنهي عنه. {إن الله سميع} لأقوالكم، {عليم} بنياتكم وأفعالكم.
ثم ناداهم ثانياً، تحريكاً لما يلقيه إليهم، واستعباداً لما يتجدد من الأحكام، وتطرية للإنصات. ونزلت بسبب عادة الأعراب من الجفاء وعلو الصوت. {لا ترفعوا أصواتكم}: أي إذا نطق ونطقتم، {ولا تجهروا بالقول} إذا كلمتموه، لأن رتبة النبوة والرسالة يجب أن توقر وتجل، ولا يكون الكلام مع الرسول صلى الله عليه وسلم كالكلام مع غيره. ولما نزلت، قال أبو بكر رضي الله عنه: لاأكلمك يا رسول الله إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله. وعن عمر رضي الله عنه، أنه كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم كأخي السرار، لا يسمعه حتى يستفهمه. وكان أبو بكر، إذا قدم على الرسول الله صلى الله عليه وسلم، قوم أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون، ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن الرفع والجهر إلا ما كان في طباعهم، لا أنه مقصود بذلك الاستخفاف والاستعلاء، لأنه كان يكون فعلهم ذلك كفراً، والمخاطبون مؤمنون. {كجهر بعضكم لبعض}: أي في عدم المبالاة وقلة الاحترام، فلم ينهوا إلا عن جهر مخصوص. وكره العلماء رفع الصوت عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبحضرة العالم، وفي المساجد.
وعن ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، وكان في أذنه وقر، وكان جهير الصوت، وحديثه في انقطاعه في بيته أياماً بسبب ذلك مشهور، وأنه قال: يا رسول الله، لما أنزلت، خفت أن يحبط عملي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك من أهل الجنة». وقال له مرة: «أما ترضى أن تعيش حميداً وتموت شهيداً»؟ فعاش كذلك، ثم قتل باليمامة، رضي الله تعالى عنه يوم مسيلمة {أن تحبط أعمالكم}: إن كانت الآية معرضة بمن يجهر استخفافاً، فذلك كفر يحبط معه العمل حقيقة؛ وإن كانت للمؤمن الذي يفعل ذلك غفلة وجرياً على عادته، فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليه وسلم، وغض الصوت عنده، أن لو فعل ذلك، كأنه قال: مخافة أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها. وأن تحبط مفعول له، والعامل فيه ولا تجهروا، على مذهب البصريين في الاختيار، ولا ترفعوا على مذهب الكوفيين في الاختيار، ومع ذلك، فمن حيث المعنى حبوط العمل علة في كل من الرفع والجهر. وقرأ عبد الله وزيد بن علي: فتحبط بالفاء، وهو مسبب عن ما قبله.
{إن الذين يغضون أصواتهم}، قيل: نزلت في أبي بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما، لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به أخا السرار. {امتحن الله قلوبهم للتقوى}: أي جربت ودربت للتقوى، فهي مضطلعة بها، أو وضع الامتحان موضع المعرفة، لأن تحقيق الشيء باختباره، أي عرف قلوبهم كائنة للتقوى في موضع الحال، أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن لأجل التقوى، أي لتثبت وتظهر تقواها.
وقيل: أخلصها للتقوى من قولهم: امتحن الذهب وفتنة إذا أذابه، فخلص إبريزه من خبثه. وجاءت في هذه الآية إن مؤكدة لمضمون الجملة، وجعل خبرها جملة من اسم الإشارة الدال على التفخيم والمعرفة بعده، جائياً بعد ذكر جزائهم على غض أصواتهم. وكل هذا دليل على أن الارتضاء بما فعلوا من توقير النبي صلى الله عليه وسلم، بغض أصواتهم، وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب رافعو أصواتهم واستجابهم ضد ما استوجبه هؤلاء.
{إن الذين ينادونك من وراء الحجرات}: نزلت في وفد بني تميم الأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم وغيرهم. وفدوا ودخلوا المسجد وقت الظهيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم راقد، فجعلوا ينادونه بجملتهم: يا محمد، أخرج إلينا. فاستيقظ فخرج، فقال له الأقرع بن حابس: يا محمد، إن مدحي زين وذمي شين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلك ذلك الله تعالى». فاجتمع الناس في المسجد فقالوا: نحن بني تميم بخطيبنا وشاعرنا، نشاعرك ونفاخرك؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بالشعر بعثت، ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا». فقال الزبرقان لشاب منهم: فخروا ذكر فضل قومك، فقال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وآتانا أموالاً نفعل فيها ما نشاء، فنحن من خير أهل الأرض، من أكثرهم عدداً ومالاً وسلاحاً، فمن أنكر علينا فليأت بقول هو أحسن من قولنا، وفعل هو أحسن من فعلنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لثابت بن قيس بن شماس، وكان خطيبه: «قم فأجبه»، فقال: «الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، دعا المهاجرين من بني عمه أحسن الناس وجوهاً وأعظمهم أحلاماً فأجابوه، والحمد لله الذي جعلنا أنصار دينه ووزراء رسوله وعزاً لدينه، فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا أله إلا الله، فمن قالها منع نفسه وماله، ومن أباها قتلناه وكان رغمه علينا هيناً، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات». وقال الزبرقان لشاب: قم فقل أبياتاً تذكر فيها فضل قومك، فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا *** فينا الرؤوس وفينا يقسم الربع
ونطعم النفس عند القحط كلهم *** من السيف إذا لم يؤنس الفزع
إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد *** إنا كذلك عند الفخر نرتفع
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا حسان بن ثابت، فقال له: «أعدلي قولك فأسمعه»، فأجابه:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم *** قد شرعوا سنة للناس تتبع
يوصي بها كل من كانت سريرته *** تقوى الإله فكل الخير يطلع
ثم قال حسان في أبيات:
نصرنا رسول الله والدين عنوة *** على رغم غاب من معد وحاضر
بضرب كأنواع المخاض مشاشة *** وطعن كأفواه اللقاح المصادر
وسل أحداً يوم استقلت جموعهم *** بضرب لنا مثل الليوث الخوادر
ألسنا نخوض الموت في حومة الوغا *** إذا طاب ورد الموت بين العساكر
فنضرب هاماً بالذراعين ننتمي *** إلى حسب من جذع غسان زاهر
فلولا حياء الله قلنا تكرماً *** على الناس بالحقين هل من منافر
فأحياؤنا من خير من وطئ الحصا *** وأمواتنا من خير أهل المقابر
قال: فقام الأقرع بن حابس فقال: إني والله لقد جئت لأمر، وقد قلت شعراً فاسمعه، وقال:
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا *** إذا خالفونا عند ذكر المكارم
وإنا رؤوس الناس في كل غارة *** تكون بنجد أو بأرض التهائم
وإن لنا المرباع في كل معشر *** وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان: «قم فأجبه»، فقام وقال:
بني درام لا تفخروا إن فخركم *** يصير وبالاً عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم *** لنا خول من بين ظئر وخادم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد كنت غنياً يا أخا دارم أن يذكر منك ما ظننت أن الناس قد لتنوه». فكان قوله عليه الصلاة والسلام أشد عليهم من جميع ما قاله حسان، ثم رجع حسان إلى شعره فقال:
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم *** وأموالكم أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا الله نداً وأسلموا *** ولا تفخروا عند النبي بدارم
وإلا ورب البيت قد مالت القنا *** على هامكم بالمرهفات الصوارم
فقال الأقرع بن حابس: والله ما أدري ما هذا الأمر، تكلم خطيبنا، فكان خطيبهم أحسن قولاً، وتكلم شاعرنا، فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولاً، ثم دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يضرك ما كان قبل هذا»، ثم أعطاهم وكساهم.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، وذلك أن المناداة من وراء الحجرات فيها رفع الصوت وإساءة الأدب، والله قد أمر بتوقير رسوله وتعظيمه. والوراء: الجهة التي يواريها عنك الشخص من خلف أو قدام، ومن لابتداء الغاية، وإن المناداة نشأت من ذلك المكان. وقال الزمخشري: فإن قلت: أفرق بين الكلامين، بين ما تثبت فيه وما تسقط عنه. قلت: الفرق بينهما: أن المنادى والمنادي في أحدهما يجوز أن يجمعهما الوراء، وفي الثاني لا يجوز، لأن الوراء تصير بدخول من مبتدأ الغاية، ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن يكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد. والذي يقول: ناداني فلان من وراء الدار، لا يريد وجه الدار ولا دبرها، ولكن أي قطر من أقطارها، كان مطلقاً بغير تعين ولا اختصاص.
انتهى. وقد أثبت أصحابنا في معاني من أنها تكون لابتداء الغاية وانتهائها في فعل واحد، وأن الشيء الواحد يكون محلاً لهما. وتأولوا ذلك على سيبويه وقالوا من ذلك قولهم: أخذت الدرهم من زيد، فزيد محل لابتداء الأخذ منه وانتهائه معاً. قالوا: فمن تكون لابتداء الغاية فقط في أكثر المواضع، وفي بعض المواضع لابتداء الغاية وانتهائها معاً. وهذه المناداة التي أنكرت، ليس إنكارها لكونها وقعت في إدبار الحجرات أو في وجوهها، وإنما أنكر ذلك لأنهم نادوه من خارج، مناداة الأجلاف التي ليس فيها توقير، كما ينادي بعضهم بعضاً.
والحجرات: منازل الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت تسعة. والحجرة: الرفعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها. وحظيرة الإبل تسمى حجرة، وهي فعلة بمعنى مفعولة، كالغرفة والقبضة. وقرأ الجمهور: الحجرات، بضم الجيم اتباعاً للضمة قبلها؛ وأبو جعفر، وشيبة: بفتحها؛ وابن أبي عبلة: بإسكانها، وهي لغى ثلاث، في كل فعلة بشرطها المذكور في علم النحو. والظاهر أن من صدر منه النداء كانوا جماعة. وذكر الأصم أن من ناداه كان الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، فإن صح ذلك، كان الإسناد إلى الجماعة، لأنهم راضون بذلك؛ وإذا كانوا جماعة، احتمل أن يكونوا تفرقوا، فنادى بعض من وراء هذه الحجرة، وبعض من وراء هذه، أو نادوه مجتمعين من وراء حجرة حجرة، أو كانت الحجرة واحدة، وهي التي كان فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، وجمعت إجلالاً له؛ وانتفاء العقل عن أكثرهم دليل على أن فيهم عقلاً. وقال الزمخشري: ويحتمل أن يكون الحكم بقلة العقلاء فيهم قصداً إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل، فإن القلة تقع موقع النفي في كلامهم. انتهى. وليس في الآية الحكم بقلة العقل منطوقاً به، فيحتمل النفي، وإنما هو مفهوم من قوله: {أكثرهم لا يعقلون}. والنفي المحض المستفاد إنما هو من صريح لفظ التقليل، لا من المفهوم، فلا يحمل قوله: {ولكن أكثرهم لا يشكرون} النفي المحض للشكر، لأن النفي لم يستفد من صريح التقليل. وهذه الآية سجلت على الذين نادوه بالسفه والجهل.
وابتدأ أول السورة بتقديم الأمور التي تنتمي إلى الله تعالى ورسوله على الأمور كلها، ثم على ما نهى عنه من التقديم بالنهي عن رفع الصوت والجهر، فكان الأول بساطاً للثاني، ثم يلي بما هو ثناء على الذين امتنعوا من ذلك، فغضوا أصواتهم دلالة على عظم موقعه عند الله تعالى. ثم جيء على عقبه بما هو أفظع، وهو الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته ببعض حرمه من وراء الجدار، كما يصاح بأهون الناس، ليلبيه على فظاعة ما جسروا عليه، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول، كان صنيع هؤلاء معه من المنكر المتفاحش.
ومن هذا وأمثاله تقتبس محاسن الآداب. كما يحكى عن أبي عبيد ومحله من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى أنه قال: ما دققت باباً على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه.
{ولو أنهم صبرو حتى تخرج إليهم}، قال الزمخشري: {أنهم صبروا} في موضع الرفع على الفاعلية، لأن المعنى: ولو ثبت صبرهم. انتهى، وهذا ليس مذهب سيبويه، أن أن وما بعدها بعد لو في موضع مبتدأ، لا في موضع فاعل. ومذهب المبرد أنها في موضع فاعل بفعل محذوف، كما زعم الزمخشري. واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من صبروا، أي لكان هو، أي صبرهم خيراً لهم. وقال الزمخشري: في كان، إما ضمير فاعل الفعل المضمر بعد لو. انتهى، لأنه قدر أن وما بعدها فاعل بفعل مضمر، فأعاد الضمير على ذلك الفاعل، وهو الصبر المنسبك من أن ومعمولها خيراً لهم في الثواب عند الله، وفي انبساط نفس الرسول صلى الله عليه وسلم وقضائه لحوائجهم. وقد قيل: إنهم جاءوا في أسارى، فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم النصف وفادى على النصف، ولو صبروا لأعتق الجميع بغير فداء. وقيل: لكان صبرهم أحسن لأدبهم. {والله غفور رحيم}، لن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا.
{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة} الآية، حدث الحرث بن ضرار قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني إلى الإسلام، فأسلمت، وإلى الزكاة فأقررت بها، فقلت: أرجع إلى قومي وأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن أجابني جمعت زكاته، فترسل من يأتيك بما جمعت. فلما جمع ممن استجاب له، وبلغ الوقت الذي أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، واحتبس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لسروات قومه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لي وقتاً إلى من يقبض الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف، ولا أرى حبس الرسول إلا من سخطه. فانطلقوا بها إليه، وكان عليه السلام البعث بعث الوليد بن الحارث، ففرق، فرجع فقال: منعني الحارث الزكاة وأراد قتلي، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحارث، فاستقبل الحارث البعث وقد فصل من المدينة، فقالوا: هذا الحارث، إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك قال: ولم؟ فقالوا: بعث إليك الوليد، فرجع وزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال: لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيت رسولك، ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسولك خشية أن يكون سخطة من الله ورسوله، قال: فنزلت هذه الآية.
وفاسق وبنبأ مطلقان، فيتناول اللفظ كل واحد على جهة البدل، وتقدم قراءة فتبينوا وفتثبتوا في سورة النساء، وهو أمر يقتضي أن لا يعتمد على كلام الفاسق، ولا يبنى عليه حكم.
وجاء الشرط بحرف إن المقتضي للتعليق في الممكن، لا بالحرف المقتضي للتحقيق، وهو إذا، لأن مجيء الرجل الفاسق للرسول وأصحابه بالكذب، إنما كان على سبيل الندرة. وأمروا بالتثبت عند مجيئه لئلا يطمع في قبول ما يلقيه إليهم، ونبا ما يترتب على كلامه. فإذا كانوا بمثابة التبين والتثبت، كف عن مجيئهم بما يريد. {أن تصيبوا}: مفعول له، أي كراهة أن يصيبوا، أو لئلا تصيبوا، {بجهالة} حال، أي جاهلين بحقيقة الأمر معتمدين على خبر الفاسق، {فتصبحوا}: فتصيروا، {على ما فعلتم}: من إصابة القوم بعقوبة بناء على خبر الفاسق، {نادمين}: مقيمين على فرط منكم، متمنين أنه لم يقع. ومفهوم {إن جاءكم فاسق}: قبول كلام غير الفاسق، وأنه لا يتثبت عنده، وقد يستدل به على قبول خبر الواحد العدل. وقال قتادة: لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التثبت من الله والعجلة من الشيطان» وقال مقلد بن سعيد: هذه الآية ترد علي من قال: إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة، لأن الله تعالى أمر بالتبين قبل القبول. انتهى. وليس كما ذكر، لأنه ما أمر بالتبيين إلا عند مجيء الفاسق، لا مجيء المسلم، بل بشرط الفسق. والمجهول الحال يحتمل أن يكون فاسقاً، فالاحتياط لازم.
{واعلموا أن فيكم رسول الله}: هذا توبيخ لمن يكذب للرسول عليه الصلاة والسلام، ووعيد بالنصيحة. ولا يصدر ذلك إلا ممن هو شاك في الرسالة، لأن الله تعالى لا يترك نبيه صلى الله عليه وسلم يعتمد على خبر الفاسق، بل بين له ذلك. والظاهر أن قوله: {واعلموا أن فيكم رسول الله} كلام تام، أمرهم بأن يعلموا أن الذي هو بين ظهرانيكم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تخبروه بما لا يصح، فإنه رسول الله يطلعه على ذلك.
ثم أخبر تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم لو أطاعكم في كثير من الأمر الذي يؤدي إليه اجتهادكم وتقدمكم بين يديه {لعنتم}: أي لشق عليكم. وقال مقاتل: لأتمتم. وقال الزمخشري: والجملة المصدرة بلو لا تكون كلاماً مستأنفاً لأدائه إلى تنافر النظم، ولكن متصلاً بما قبله حالاً من أحد الضميرين في فيكم المستتر المرفوع، أو البارز المجرور، وكلاهما مذهب سديد، والمعنى: أن فيكم رسول الله، وأنتم على حالة يجب عليكم تغييرها، وهو أنكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعن لكم من رأي واستصواب فعل المطواع لغيره، والتابع له فيما يرتئيه المحتذي على أمثلته، ولو فعل ذلك {لعنتم}: أي لوقعتم في الجهد والهلاك.
وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق، وتصديق قول الوليد، وأن نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم، وأن بعضهم كانوا يتصونون، ويزعهم جدهم في التقوى عن الجسارة على ذلك، وهم الذين استثناهم بقوله: {ولكن الله حبب أليكم الإيمان}: أي إلى بعضكم، ولكنه أغنت عن ذكر البعض صفتهم المفارقة لصفة غيرهم، وهذا من إيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة التي لا يفطن إليها إلا الخواص.
وعن بعض المفسرين: هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى. انتهى، وفيه تكثير. ولا بعد أن تكون الجملة المصدرة بلو مستأنفة لا حالاً، فلا تعلق لها بما قبلها من جهة الإعراب. وتقديم خبر أن على اسمها قصد إلى توبيخ بعض المؤمنين على ما استهجن من استتباعهم رأي الرسول صلى الله عليه وسلم لآرائهم، فوجب تقديمه لانصباب الغرض إليه. وقيل: يطيعكم دون أطاعكم، للدلالة على أنه كان في إرادتهم استمرار عملهم على ما يستصوبونه، وأنه كلما عنّ لهم رأي في أمر كان معمولاً عليه بدليل قوله في كثير من الأمر، وشريطة لكن مفقودة من مخالفة ما بعدها لما قبلها من حيث اللفظ، حاصلة من حيث المعنى، لأن الذين حبب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المتقدم ذكرهم فوقعت لكن في حاق موقعها من الاستدراك. انتهى، وهو ملتقط من كلام الزمخشري.
وقال الزمخشري أيضاً: ومعنى تحبيب الله وتكريهه اللطف والإمداد بالتوفيق وسبيله الكناية، كما سبق وكل ذي لب، وراجع إلى بصيرة وذهن لا يغبا عليه أن الرجل لا يمدح بفعل غيره. وحمل الآية على ظاهرها يؤدي إلى أن يثني عليهم بفعل الله، وقد نفى الله هذا عن الذين أنزل فيهم، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا. انتهى، وهي على طريق الاعتزال. وعن الحسن: حبب الإيمان بما وصف من الثناء عليه، وكره الثلاثة بما وصف من العقاب. انتهى. {أولئك هم الراشدون}: التفات من الخطاب إلى الغيبة. {فضلاً من الله ونعمة}، قال ابن عطية: مصدر مؤكد لنفسه، لأن ما قبله هو بمعناه، هذ التحبيب والتزيين هو نفس الفضل. وقال الحوفي: فضلاً نصب على الحال. انتهى، ولا يظهر هذا الذي قاله. وقال أبو البقاء: مفعول له، أو مصدر في معنى ما تقدم. وقال الزمخشري: فضلاً مفعول له، أو مصدر من غير فعله. فإن قلت: من أين جاز وقوعه مفعولاً له، والرشد فعل القوم، والفضل فعل الله تعالى، والشرط أن يتحد الفاعل؟ قلت: لما وقع الرشد عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه مسندة إلى اسمه، تقدست أسماؤه، وصار الرشد كأنه فعله، فجاز أن ينتصب عنه ولا ينتصب عن الراشدون، ولكن عن الفعل المسند إلى اسم الله تعالى.
والجملة التي هي {أولئك هم الراشدون} اعتراض، أو عن فعل مقدر، كأنه قيل: جرى ذلك، أو كان ذلك فضلاً من الله. وأما كونه مصدراً من غير فعله، فأن يوضع موضع رشداً، لأن رشدهم فضل من الله لكونهم موفقين فيه، والفضل والنعمة بمعنى الأفضال والأنعام. {والله عليم} بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل، {حكيم} حين يفضل وينعم بالتوفيق على أفاضلهم. انتهى. أما توجيهه كون فضلاً مفعولاً من أجله، فهو على طريق الاعتزال. وأما تقديره أو كان ذلك فضلاً، فليس من مواضع إضمار كان، ولذلك شرط مذكور في النحو.


سبب نزولها ما جرى بين الأوس والخزرج حين أساء الأدب عبد الله بن أبيّ بن سلول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في موضعه، وتعصب بعضهم لعبد الله، ورد عبد الله بن رواحة على ابن أبي، فتجالد الحيان، قيل: بالحديد، وقيل: بالجريد والنعال والأيدي، فنزلت، فقرأها عليهم، فاصطلحوا. وقال السدّي: وكانت بالمدينة امرأة من الأنصار يقال لها أم بدر، وكان لها زوج من غيرهم، فوقع بينهم شيء أوجب أن يأنف لها قومها وله قومه، فوقع قتال، فنزلت الآية بسببه. وقرأ الجمهور: {اقتتلوا} جمعاً، حملاً على المعنى، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس. وقرأ ابن أبي عبلة: اقتتلتا، على لفظ التثنية؛ وزيد بن عليّ، وعبيد بن عمير: اقتتلتا على التثنية، مراعى بالطائفتين. الفريقان اقتتلوا، وكل واحد من الطائفتين باغ؛ فالواجب السعي بينهما بالصلح، فإن لم تصطلحا وأقامتا على البغي قوتلتا، أو لشبهة دخلت عليهما، وكل منهما يعتقد أنه على الحق؛ فالواجب إزالة الشبه بالحجج النيرة والبراهين القاطعة، فإن لجا، فكالباغيتين؛ {فإن بغت إحداهما}، فالواجب أن تقاتل حتى تكف عن البغي. ولم تتعرض الآية من أحكام التي تبغي لشيء إلا لقتالها، وإلى الإصلاح إن فاءت. والبغي هنا: طلب العلو بغير الحق، والأمر في فأصلحوا وقاتلوا هو لمن له الأمر من الملوك وولاتهم. وقرأ الجمهور: {حتى تفيء}، مضارع فاء بفتح الهمزة؛ والزهري: حتى تفي، بغير همزة وفتح الياء، وهذا شاذ، كما قالوا في مضارع جاء يجي بغير همز، فإذا أدخلوا الناصب فتحوا الياء أجروه مجرى يفي مضارع وفي شذوذاً.
{إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم}: أي إخوة في الدين. وفي الحديث: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله» وقرأ الجمهور: {بين أخويكم} مثنى، لأن أقل من يقع بينهم الشقاق إثنان، فإذا كان الإصلاح لازماً بين اثنين، فهو ألزم بين أكثر من اثنين. وقيل: المراد بالأخوين: الأوس والخزرج. وقرأ زيد بن ثابت، وابن مسعود، والحسن: بخلاف عنه؛ والجحدري، وثابت البناني، وحماد بن سلمة، وابن سيرين: بين إخوانكم جمعاً، بالألف والنون، والحسن أيضاً، وابن عامر في رواية، وزيد بن عليّ، ويعقوب: بين إخوتكم جمعاً، على وزن غلمة. وروى عبد الوهاب عن أبي عمرو القراءات الثلاث، ويغلب الأخوان في الصداقة، والإخوة في النسب، وقد يستعمل كل منهما مكان الآخر، ومنه {إنما المؤمنون إخوة}، وقوله: {أو بيوت إخوانكم} {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم}: هذه الآية والتي بعدها تأديب للأمّة، لما كان فيه أهل الجاهلية من هذه الأوصاف الذميمة التي وقع النهي عنها. وقيل: نزلت بسبب عكرمة بن أبي جهل، كان يمشي بالنميمة، وقد أسلم، فقال له قوم: هذا ابن فرعون هذه الأمة، فعز ذلك عليه وشكاهم، فنزلت.
وقوم مرادف رجال، كما قال تعالى: {الرجال قوّامون على النساء} ولذلك قابله هنا بقوله: {ولا نساء من نساء}، وفي قول زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري *** أقوم آل حصن أم نساء
وقال الزمخشري: وهو في الأصل جمع قائم، كصوم وزور في جميع صائم وزائر. انتهى وليس فعل من أبنية الجموع إلا على مذهب أبي الحسن في قوله: إن ركبا جمع راكب. وقال أيضاً الزمخشري: وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد: هم الذكور والإناث، فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث، لأنهن توابع لرجالهن. انتهى. وغيره يجعله من باب التغليب والنهي، ليس مختصاً بانصبابه على قوم ونساء بقيد الجمعية من حيث المعنى، وإن كان ظاهر اللفظ ذلك، بل المعنى: لا يسخر أحد من أحد، وإنما ذكر الجمع، والمراد به كل فرد فرد ممن يتناوله عموم البدل. فكأنه إذا سخر الواحد، كان بمجلسه ناس يضحكون على قوله، أو بلغت سخريته ناساً فضحكوا، فينقلب الحال إلى جماعة. {عسى أن يكونوا}: أي المسخور منهم، {خيراً منهم}: أي من الساخرين بهم. وهذه الجملة مستأنفة، وردت مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهي عنه، أي ربما يكون المسخور منه عند الله خيراً من الساخر، لأن العلم بخفيات الأمور إنما هو لله تعالى. وعن ابن مسعود: لو سخرت من كلب، خشيت أن أحول كلباً.
{ولا نساء من نساء}: روي أن عائشة وحفصة، رضي الله تعالى عنهما، رأتا أم سلمة ربطت حقويها بثوب أبيض وسدلت طرفه خلفها، فقالت عائشة لحفصة: انظري إلى ما يجر خلفها، كأنه لسان كلب. وعن عائشة، أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية، وكانت قصيرة. وعن أنس: كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم يعيرن أم سلمة بالقصر. وقالت صفية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها: هلا قلت إن أبي هارون، وإن عمي موسى، وإن زوجي محمد؟ وقرأ عبد الله وأبي: عسوا أن يكونوا، وعسين أن يكن، فعسى ناقصة، والجمهور: عسى فيهما تامّة، وهي لغتان: الإضمار لغة تميم، وتركه لغة الحجاز.
{ولا تلمزوا أنفسكم}: ضم الميم في تلمزوا، الحسن والأعرج وعبيد عن أبي عمرو. وقال أبو عمرو: هي عربية؛ والجمهور؛ بالكسر، واللمز بالقول والإشارة ونحوه مما يفهمه آخر، والهمز لا يكون إلا باللسان، والمعنى: لا يعب بعضكم بعضاً، كما قال: فاقتلوا أنفسكم، كأن المؤمنين نفس واحدة، إذ هم إخوة كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وكالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى. ومفهوم أنفسكم أن له أن يعيب غيره، مما لا يدين بدينه.
ففي الحديث: «اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس» وقيل: المعنى لا تفعلوا ما تلمزون به، لأن من فعل ما استحق اللمز، فقد لمز نفسه.
{ولا تنابزوا بالألقاب}: اللقب إن دل على ما يكرهه المدعو به، كان منهياً، وأما إذا كان حسناً، فلا ينهى عنه. وما زالت الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير. وروي أن بني سلمة كانوا قد كثرت فيهم الألقاب، فنزلت الآية بسبب ذلك. وفي الحديث: «كنوا أولادكم» قال عطاء: مخافة الألقاب. وعن عمر: «أشيعوا الكنى فإنها سنة». انتهى، ولا سيما إذا كانت الكنية غريبة، لا يكاد يشترك فيها أحد مع من تكنى بها في عصره، فإنه يطير بها ذكره في الآفاق، وتتهادى أخباره الرفاق، كما جرى في كنيتي بأبي حيان، واسمي محمد. فلو كانت كنيتي أبا عبد الله أو أبا بكر، مما يقع فيه الاشتراك، لم أشتهر تلك الشهرة، وأهل بلادنا جزيرة الأندلس كثيراً ما يلقبون الألقاب، حتى قال فيهم أبو مروان الطنبي:
يا أهل أندلس ما عندكم أدب *** بالمشرق الأدب النفاخ بالطيب
يدعى الشباب شيوخاً في مجالسهم *** والشيخ عندكم يدعى بتلقيب
فمن علماء بلادنا وصالحيهم من يدعى الواعي وباللص وبوجه نافخ، وكل هذا يحرم تعاطيه. قيل: وليس من هذا قول المحدثين سليمان الأعمش وواصل الأحدب ونحوه مما تدعو الضرورة إليه، وليس فيه قصد استخفاف ولا أذى. قالوا: وقد قال ابن مسعود لعلقمة: وتقول أنت ذلك يا أعور. وقال ابن زيد: أي لا يقول أحد لأحد يا يهودي بعد إسلامه، ولا يا فاسق بعد توبته، ونحو ذلك. وتلاحى ابن أبي حدرد وكعب بن مالك، فقال له مالك: يا أعرابي، يريد أن يبعده من الهجرة، فقال له الآخر: يا يهودي، يريد المخاطبة لليهود في يثرب.
{بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان}: أي بئس اسم تنسبونه بعصيانكم نبزكم بالألقاب، فتكونون فساقاً بالمعصية بعد إيمانكم، أو بئس ما يقوله الرجل لأخيه يا فاسق بعد إيمانه. وقال الرماني: هذه الآية تدل على أنه لا يجتمع الفسوق والإيمان. انتهى. وقال الزمخشري: نحو قول الرماني، قال: استقباح الجمع بعد الإيمان، والفسق الذي يأباه الإيمان، وهذه نزغة اعتزالية. وقال الزمخشري: الاسم ههنا بمعنى الذكر من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللوم، كما يقال: طار ثناؤه وصيته وحقيقة ما سمي من ذكره وارتفع بين الناس، كأنه قيل: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن تذكروا بالفسق. {ومن لم يتب}: أي عن هذه الأشياء {فأولئك هم الظالمون}: تشديد وحكم بظلم من لم يتب.
{اجتنبوا كثيراً من الظن}: أي لا تعملوا على حسبه، وأمر تعالى باجتنابه، لئلا يجترئ أحد على ظن إلا بعد نظر وتأمل وتمييز بين حقه وباطله.
والمأمور باجتنابه هو بعض الظن المحكوم عليه بأنه إثم، وتمييز المجتنب من غيره أنه لا يعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر، كمن يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث، كالدخول والخروج إلى حانات الخمر، وصحبة نساء المغاني، وإدمان النظر إلى المرد. فمثل هذا يقوي الظن فيه أنه ليس من أهل الصلاح، ولا إثم فيه، وإن كنا لا نراه يشرب الخمر، ولا يزني، ولا يعبث بالشبان، بخلاف من ظاهره الصلاح فلا يظن به السوء. فهذا هو المنهي عنه، ويجب أن يزيله. والإثم: الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب. وقال الزمخشري: والهمزة فيه بدل عن الواو، كأنه يثم الأعمال، أي يكسرها بإحباطه، وهذا ليس بشيء، لأن تصريف هذه الكلمة مستعمل فيه الهمز. تقول: أثم يأثم فهو آثم، والإثم والآثام، فالهمزة أصل وليست بدلاً عن واو. وأما يثم فأصله يوثم، وهو من مادة أخرى. وقيل: الاثم متعلق بتكلم الظان. أما إذا لم يتكلم، فهو في فسحة، لأنه لا يقدر على رفع الخواطر التي يبيحها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحزم سوء الظن» وقرأ الجمهور: ولا تجسسوا بالجيم. وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين بالحاء وهما متقاربان، نهى عن تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه. وقيل لابن مسعود: هل لك في فلان تقطر لحيته خمراً؟ فقال: إنا قد نهينا عن التجسس، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به. وفي الحديث: «أن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم»، وقد وقع عمر رضي الله تعالى عنه في حراسته على من كان في ظاهره ريبة، وكان دخل عليه هجماً، فلما ذكر له نهي الله تعالى عن التجسس، انصرف عمر.
{ولا يغتب بعضكم بعضاً}، يقال: غابه واغتابه، كغاله واغتاله؛ والغيبة من الاغتياب، كالغيلة من الاغتيال، وهي ذكر الرجل بما يكره مما هو فيه. وفي الحديث: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الغيبة فقال: أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع، فقال: يا رسول الله وإن كان حقاً؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قلت باطلاً فذلك البهتان»، وفي الصحيحين فقد بهته. وقال ابن عباس: الغيبة أدام كلاب الناس. وقالت عائشة عن امرأة: ما رأيت أجمل منها، إلا أنها قصيرة. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اغتبتيها، نظرت إلى أسوأ ما فيها فذكرتيه».
وحكى الزهراوي عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الغيبة أشد من الزنا، لأن الزاني يتوب الله عليه، والذي يغتاب فلا يتاب عليه حتى يستحل، وعرض المسلم مثل دمه في التحريم».
وفي الحديث المستفيض: «فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم» ولا يباح من هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه، من تجريح الشهود والرواة، والخطاب إذا استنصح من يخطب إليه من يعرفهم، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم، ومنه:
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ***
{أيحب أحدكم}، قال الزمخشري: تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه، وفيه مبالغات شتى، منها: الاستفهام الذي معناه التقرير، ومنها: جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة، ومنها: إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك، ومنها: أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخاً، ومنها: أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتاً. انتهى. وقال الرماني: كراهية هذا اللحم يدعو إليه الطبع، وكراهية الغيبة يدعو إليها العقل، وهو أحق أن يجاب، لأنه بصير عالم، والطبع أعمى جاهل. انتهى. وقال أبو زيد السهيلي: ضرب المثل لأخذه العرض يأكل اللحم، لأن اللحم ستر على العظم، والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه من ستر.
وقال تعالى: {ميتاً}، لأن الميت لا يحس، وكذلك الغائب لا يسمع ما يقول فيه المغتاب، ثم هو في التحريم كآكل لحم الميت. انتهى. وروي في الحديث: «ما صام من أكل لحوم الناس» وقال أبو قلابة الرياشي: سمعت أبا عاصم يقول: ما اغتبت أحداً منذ عرفت ما في الغيبة. وقيل: لعمر بن عبيد: لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك، قال: إياه فارحموا. وقال رجل للحسن: بلغني أنك تغتابني، قال: لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي. وانتصب ميتاً على الحال من لحم، وأجاز الزمخشري أن ينتصب عن الأخ، وهو ضعيف، لأن المجرور بالإضافة لا يجيء الحال منه إلا إذا كان له موضع من الإعراب، نحو: أعجبني ركوب الفرس مسرجاً، وقيام زيد مسرعاً. فالفرس في موضع نصب، وزيد في موضع رفع. وقد أجاز بعض أصحابنا أنه إذا كان الأول جزأ أو كالجزء، جاز انتصاب الحال من الثاني، وقد رددنا عليه ذلك فيما كتبناه في علم النحو. {فكرهتموه}، قال الفراء: أي فقد كرهتموه، فلا تفعلون. وقيل: لما وقفهم على التوبيخ بقوله: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً}، فأجاب عن هذا: لأنهم في حكم من يقولها، فخوطبوا على أنهم قالوا لا، فقيل لهم: فكرهتموه، وبعد هذا يقدر فلذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك. وعلى هذا التقدير يعطف قوله: {واتقوا الله}، قاله أبو علي الفارسي، وفيه عجرفة العجم.
وقال الزمخشري: ولما قررهم عز وجل بأن أحداً منهم لا يحب أكل جيفة أخيه، عقب ذلك بقوله: {فكرهتموه}، أي فتحققت بوجوب الإقرار عليكم بأنكم لا تقدرون على دفعه وإنكاره لإباء البشرية عليكم أن تجحدوا كراهتكم له وتقذركم منه، فليتحقق أيضاً أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة والطعن في أعراض المسلمين.
انتهى، وفيه أيضاً عجرفة العجم. والذي قدره الفراء أسهل وأقل تكلفاً، وأجرى على قواعد العربية. وقيل: لفظه خبر، ومعناه الأمر، تقديره: فاكرهوه، ولذلك عطف عليه {واتقوا الله}، ووضع الماضي موضع الأمر في لسان العرب كثير، ومنه اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه، أي ليتق الله، ولذلك انجزم يثب على جواب الأمر.
وما أحسن ما جاء الترتيب في هذه الآية. جاء الأمر أولاً باجتناب الطريق التي لا تؤدي إلى العلم، وهو الظن؛ ثم نهى ثانياً عن طلب تحقق ذلك الظن، فيصير علماً بقوله: {ولا تجسسوا}؛ ثم نهى ثالثاً عن ذكر ذلك إذا علم، فهذه أمور ثلاثة مترتبة، ظنّ فعلم بالتجسس فاغتياب. وضمير النصف في كرهتموه، الظاهر أنه عائد على الأكل. وقيل: على الميت. وقرأ أبو سعيد الخدري، وأبو حيوة: فكرّهتموه، الظاهر أنه عائد على الأكل. وقيل: على الميت. وقرأ أبو سعيد الخدري، وأبو حيوة: فكرّهتموه، بضم الكاف وتشديد الراء؛ ورواها الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، والجمهور: بفتح الكاف وتخفيف الراء، وكره يتعدى إلى واحد، فقياسه إذا ضعف أن يتعدى إلى اثنين، كقراءة الخدري ومن معه، أي جعلتم فكرهتموه. فأما قوله: {وكره إليكم الكفر} فعلى التضمين بمعنى بغض، وهو يتعدى لواحد، وبإلى إلى آخر، وبغض منقول بالتضعيف من بغض الشيء إلى زيد. والظاهر عطف {واتقوا الله} على ما قبله من الأمر والنهي.


قيل: غضب الحارث بن هشام وعتاب بن أسيد حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة، فنزلت. وعن ابن عباس، سببها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح له عند النبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن فلانة؛ فوبخه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: «إنك لا تفضل أحداً إلا في الدين والتقوى». ونزل الأمر بالتفسح في ذلك أيضاً. {من ذكر وأنثى}: أي من آدم وحواء، أو كل أحد منكم من أب وأم، فكل واحد منكم مساوٍ للآخر في ذلك الوجه، فلا وجه للتفاخر. {وجعلناكم شعوباً وقبائل}: وتقدم الكلام على شيء من ذلك في المفرادت. وقيل: الشعوب في العجم والقبائل في العرب، والأسباط في بني إسرائيل. وقيل: الشعوب: عرب اليمن من قحطان، والقبائل: ربيعة ومضر وسائر عدنان. وقال قتادة، ومجاهد، والضحاك: الشعب: النسب الأبعد، والقبيلة: الأقرب، قال الشاعر:
قبائل من شعوب ليس فيهم *** كريم قد يعدّ ولا نجيب
وقيل: الشعوب: الموالي، والقبائل: العرب. وقال أبو روق: الشعوب: الذين ينسبون إلى المدائن والقرى، والقبائل: الذين ينسبون إلى آبائهم. انتهى. وواحد الشعوب شعب، بفتح الشين. وشعب: بطن من همدان ينسب إليه عامر الشعبي من سادات التابعين، والنسب إلى الشعوب شعوبية، بفتح الشين، وهم الأمم التي ليست بعرب. وقيل: هم الذين يفضلون العجم على العرب، وكان أبو عبيدة خارجياً شعوبياً، وله كتاب في مناقب العرب، ولابن غرسبة رسالة فصيحة في تفضيل العجم على العرب، وقد رد عليه ذلك علماء الأندلس برسائل عديدة. وقرأ الجمهور: {لتعارفوا}، مضارع تعارف، محذوف التاء؛ والأعمش: بتاءين؛ ومجاهد، وابن كثير في رواية، وابن محيصن: بإدغام التاء في التاء؛ وابن عباس، وأبان عن عاصم: لتعرفوا، مضارع عرف؛ والمعنى: أنكم جعلكم الله تعالى ما ذكر، كي يعرف بعضكم بعضاً في النسب، فلا ينتمي إلى غير آبائه، لا التفاخر بالآباء والأجداد، ودعوى التفاضل، وهي التقوى. وفي خطبته عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة: «إنما الناس رجلان، مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله»، ثم قرأ الآية. وعنه صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله» وما زال التفاخر بالأنساب في الجاهلية والإسلام، وبالبلاد، وبالبلاد وبالمذاهب وبالعلوم وبالصنائع، وأكثره بالأنساب:
وأعجب شيء إلى عاقل *** فروع عن المجد مستأخره
إذا سئلوا ما لهم من علا *** أشاروا إلى أعظم ناخره
ومن ذلك: افتخار أولاد مشايخ الزوايا الصوفية بآبائهم، واحترام الناس لهم بذلك وتعظيمهم لهم، وإن كان الأولاد بخلاف الآباء في الدين والصلاح. وقرأ الجمهور: إن، بكسر الهمزة؛ وابن عباس: بفتحها، وكان قرأ: لتعرفوا، مضارع عرف، فاحتمل أن تكون أن معمولة لتعرفوا، وتكون اللام في لتعرفوا لام الأمر، وهو أجود من حيث المعنى.
وأما إن كانت لام كي، فلا يظهر المعنى أن جعلهم شعوباً وقبائل لأن تعرفوا أن الأكرم هو الأتقى. فإن جعلت مفعول لتعرفوا محذوفاً، أي لتعرفوا الحق، لأن أكرمكم عند الله أتقاكم، ساغ في لام لتعارفوا أن تكون لام كي.
{قالت الأعراب آمنا}، قال مجاهد: نزلت في بني أسد بن خزيمة، قبيلة تجاور المدينة، أظهروا الإسلام وقلوبهم دخلة، إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا. وقيل: مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار قالوا آمنا فاستحققنا الكرامة، فردّ الله تعالى عليهم بقوله: {قل لم تؤمنوا}، أكذبهم الله في دعوى الإيمان، ولم يصرح بإكذابهم بلفظه، بل بما دل عليه من انتفاء إيمانهم، وهذا في أعراب مخصوصين. فقد قال الله تعالى: {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر} الآية.
{ولكن قولوا أسلمنا}، فهو اللفظ الصادق من أقوالكم، وهو الاستسلام والانقياد ظاهراً، ولم يواطئ أقوالكم ما في قلوبكم، فلذلك قال: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}: وجاء النفي بلما الدالة على انتفاء الشيء إلى زمان الإخبار، وتبين أن قوله: {لم تؤمنوا} لا يراد به انتفاء الإيمان في الزمن الماضي، بل متصلاً بزمان الإخبار أيضاً، لأنك إذا نفيت بلم، جاز أن يكون النفي قد انقطع، ولذلك يجوز أن تقول: لم يقم زيد وقد قام، وجاز أن يكون النفي متصلاً بزمن الإخبار. فإذا كان متصلاً بزمن الإخبار، لم يجز أن تقول: وقد قام، لتكاذب الخبرين. وأما لما، فإنها تدل على نفي الشيء متصلاً بزمان الإخبار، ولذلك امتنع لما يقم زيد وقد قام للتكاذب. والظاهر أن قوله: {لما يدخل الإيمان في قلوبكم} ليس له تعلق بما قبله من جهة الإعراب. وقال الزمخشري: فإن قلت: هو بعد قوله: {قل لم تؤمنوا} يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجددة؛ قلت: ليس كذلك، فإن فائدة قوله: {لم تؤمنوا} هو تكذيب دعواهم، وقوله: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} توقيت لما أمروا به أن يقولوه، كأنه قيل لهم: {ولكن قولوا أسلمنا} حين لم يثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم، لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في قوله: {قولوا}. انتهى.
والذي يظهر أنهم أمروا أن يقولوا: {قولوا أسلمنا} غير مقيد بحال، وأن {ولما يدخل الإيمان} إخبار غير قيد في قولهم. وقال الزمخشري: وما في لما من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد. انتهى، ولا أدري من أي وجه يكون ما نفي بلما يقع بعد ولما، إنما تنفي ما كان متصلاً بزمان الإخبار، ولا تدل على ما ذكر، وهي جواب لقد فعل، وهب أن قد تدل على توقع الفعل. فإذا نفي ما دل على التوقع، فكيف يتوهم أنه يقع بعد: {وإن تطيعوا الله ورسوله} بالإيمان والأعمال؟ وهذا فتح لباب التوبة.
وقرأ الجمهور: {لا يلتكم}، من لات يليت، وهي لغة الحجاز. والحسن والأعرج وأبو عمرو: ولا يألتكم، من ألت، وهي لغة غطفان وأسد. {ثم لم يرتابوا}، ثم تقتضي التراخي، وانتفاء الريبة يجب أن يقارن الإيمان، فقيل: من ترتيب الكلام لا من ترتيب الزمان، أي ثم أقول لم يرتابوا. وقيل: قد يخلص الإيمان، ثم يعترضه ما يثلم إخلاصه، فنفي ذلك، فحصل التراخي، أو أريد انتفاء الريبة في الأزمان المتراخية المتطاولة، فحاله في ذلك كحاله في الزمان الأول الذي آمن فيه. {أولئك هم الصادقون}: أي في قولهم آمنا، حيث طابقت ألسنتهم عقائدهم، وظهرت ثمرة ذلك عليهم بالجهاد بالنفس والمال. وفي سبيل الله يشمل جميع الطاعات البدنية والمالية، وليسوا كأعراب بني أسد في قولهم آمنا، وهم كاذبون في ذلك.
{قل أتعلمون الله بدينكم}، هي منقولة من: علمت به، أي شعرت به، ولذلك تعدّت إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر لما ثقلت بالتضعيف، وفي ذلك تجهيل لهم، حيث ظنوا أن ذلك يخفى على الله تعالى. ثم ذكر إحاطة علمه بما في السموات والأرض. ويقال: منّ عليهم بيد أسداها إليه، أي أنعم عليه. المنة: النعمة التي لا يطلب لها ثواب، ثم يقال: منّ عليه صنعه، إذا اعتده عليه منة وإنعاماً، أي يعتدون عليك أن أسلموا، فإن أسلموا في موضع المفعول، ولذلك تعدى إليه في قوله: {قل لا تمنوا عليّ إسلامكم}. ويجوز أن يكون أسلموا مفعولاً من أجله، أي يتفضلون عليك بإسلامهم. {أن هداكم للإيمان} بزعمكم، وتعليق المن بهدايتهم بشرط الصدق يدل على أنهم ليسوا مؤمنين، إذ قد بين تعالى كذبهم في قولهم آمنا بقوله: {قل لم تؤمنوا}. وقرأ عبد الله وزيد بن عليّ، إذ هداكم، جعلا إذ مكان إن، وكلاهما تعليل، وجواب الشرط محذوف، أي {إن كنتم صادقين}، فهو المانّ عليكم. وقرأ ابن كثير وأبان عن عاصم: يعلمون، بياء الغيبة، والجمهور: بتاء الخطاب.